العيد له ضحية - محمود تيمور (بتصرف)


 نعم أنا سائق سيارة أجرة نشيط، متوسط الحل، لم أشرب في حياتي الخمر، و لم تفتني صلاه الجمعه مرة واحدة... رجل مستقيم، في حالي... من منزلي الى مأوى السيارات، ومن مأوى السيارات الى منزلي... قليلا ما أذهب الى المقهى لأجتمع بالأصحاب، أشرب معهم الشاي أو القهوة... أحب زوجتي وأولادي، وهم يحبونني... لدينا مذياع... نقضي امامه مجتمعين مع بعض الوقت، فنسمع الى الموسيقى أو الأغاني... وقد وعدت الأولاد أن أشتري لهم جهاز ~ تلفزيون ~ لكي يستمعوا الإذاعة المرئية، فكادوا يطيرون فرحا.

غدا عيد، أقصد عيد الأضحى، وقد أعددنا له اللحم، والثياب الجديدة، وسنجلس كلنا حول الطبق – الفتة – ونملأ بطوننا ونحن نخرج ونتبادل التهنئة

كل عام وانت بخير يا ام محمد

كل عام وانتم بخير يا اولاد

كل عام وانت بخير يا ابو محمد

كل شيء يسير سيره الطبيعي، والسعادة تملأ قلوبنا جميعا. حتى وقعت الواقعة. ماذا جنيت يا رب حتى ألقى هذا العقاب؟ عفوك يا رب... إنه ليس عقابا بل هو امتحان... إنها مصيبة تمتحنني بها... فهل أستطيع احتمالها احتمال المؤمن الصابر؟

في هذا اليوم الصعب، صبحني عبد العال الفحام بوجهه... وهمست لنفسي وأردد... لا حول ولا قوة إلا بالله.. يا لوجهه الملطخ بغبار الفحم.. تنظر منه عيناني براقتان مملوءتان شررا.. جسمه كله مسودا مغبر... إنه رجل حقود حسود.. لسانه لايتوقف عن الشكوى "غيري سعيد وأنا الذي أشقى بالفقر... غيري يسير معتدل القامة نظيف الثياب، وأنا أحمل الفحم على ظهري... اسود وجهي من الفحم، واسودت معه أيامي وعلى الرغم من كل شيء قلت له :" كل عام وأنت بخير يا عبد العال"

أي عام تطلب لي فيه الخير يا رجل، وإنت تعلم جيدا أنه لا عيد لي في حياتي كلها... أتراك تهزأ بي؟

وتوجهت الى مأوى السيارة، وخرجت بالسيارة أطلب رزقي. وبدأت يومي بمخالفة صريحة لنظام المرور... وصعدت السيارة مرة على الرصيف وكادت تصدم كلبا، فمضى يعدو خلفى، وهو يحاول أن يلحق بالسيارة، ثم اختلفت ما سائق سيارة، فسبني وكدت أتشاجر معه.

وقصدت ركنا خاليا قريبا من النيل، ووقفت بالسيارة، وتناولت منديلي أمسح به وجهي، وأخذت أنظر الى صفحة النيل تنعكس عليها أشعة الشمس... وهبّ عليّ نسيم أنعشني، فاسترحت واطمأن قلبي، وسرت بالسيارة نحو أحد الفنادق... رأيت سائحا أجنبيا يشير اليّ وحملته الى الأهرام في هدوء وسلام. ومن هناك أخذت بعض رجال الأعمال الى وسط المدينة.. ثم سرت بالسيارة أضحك مع الزملاء الذين يعبرون بسياراتهم الطريق، ونحن نتبادل التهاني...

وعدت الي داري فأعطيت ما كسبته لزوجتي، وأوصيتها أن تجيد في الصباح صنع ~الفتة~ و طبخ لحم العيد. ثم تناولت طعامي مع أسرتي هنيئا مريئا... ونمت قليلا. رأيت حلما مزعجا... عبد العال يلبسني ملابس قديمة ممزقة ملطخة بالسراد، وهو يضحك قائلا : هذا ثوب العيد يا ابو محمد... لن تكون أفضل مني... لن تهزأ بي

واستيقظت من نومي فزعا خائفا... أنادي بصوت مختنق فأسرعت نحوي أم محمد تتساءل ثم أخذت تهدئني وتخفف عني.

وفي المساء ذهبت الى مأوى السيارات، وخرجت بسيارتي، وكنت أشعر بشيء يثقل صدري، وأخذت أسير في الطريق متمهلا، أحاول أن ألتقط راكبا، وتنقلت من شارع الى شارع بعد الوقت, وبدأ الليل يدخل، ومضيت بسيارتي، وتهت في زحام من الأفكار واشتدّا لهم على قلبي.

وفيما أنا على هذه الحال، سمعت صرخة ولمحت جسما يصطدم بالأرض أمام السيارة، فوقفت دفعة واحدة، وقفزت وأنا أرتعش. كانت هناك سيدة ملقاة بلا حراك، وهي تتألم وتئن أنينا ضعيفا لا يكاد يسمع... ونطقت السيدة بضع كلمات بلغة أجنبية، وظهر لي في وجهها جرح ينزف، وتلفّت حولي أطلب المساعدة، فوجدت نفسي وحيدا في شارع مظلم لم يكتمل فيه بناء الدور بعد... أأترك السيدة وأهرب ناجيا بنفسي؟؟!.. كيف أفكر في هذه الفكرة اللعينة؟ ألست مؤمنا موحدا بالله؟ وانحنيتُ على السيدة أجاهد في سبيل نقلها الى السيارة والسيدة تحاول أن تعاونني بقدر ما تستطيع

الى الإسعاف... الى المستشفى... الى أي مكان تلقى فيه السيدة عناية الطب. ورحت أدور يمينا ويسارا، وأنا أتبين السبيل، على حين كانت السيدة لا ينقطع لها أنين.. وامتدّ بي السير وأنا في اضطراب، والأنين يتواصل... وأخذ صوتها يضعف شيئا فشيئا.. حتى اختفى... فوقفت بالسيارة أنصت.. لا صوت.. فنزلت من السيارة وأقبلت عليها أنظر.. لا حركة ولا صوت.. و أشعلتُ عود ثقاب وقربته من وجهها... يا للشيطان.. كم كان وجهها ملطّخا بالدم وعيناها مفتوحتان... ثم أخذت أصيح من أعماق قلبي: لا... لا... يمكن أن يكون ذلك!

وأمسكتُ المرأة من كتفيها، وهززتها و أنا أكرر: "قومي أيتها السيدة... أرجوك أن تقومي..." وأخذتُ أضرب رأسي بيدي قائلا : "لا، مستحيل أن يقع هذا!" وأخذت أبكي بشدة...ومكثتُ على هذه الحال وقتا، ثم كفكفتُ دموعي، وعدتُ الى السيارة ولديّ بعض الأمل... حاولت أن أوقظ السيدة.. ولكن بلا فائدة... ونظرت حولي... الدنيا ظلام في ظلام.

و أخذت أفكّر... غدا العيد... والأولاد حول مائدة ~الفتة~ وأم محمد تذهب وتجيء بما يطلبون. الكل فرحان مسرور... بل الدنيا كلها في فرح وسرور. و أنا!؟ أين يكون من كل هذا مكاني؟! ماذا فعلتُ لأحرم متعة العيد بين أسرتي؟ و قصدتُ الى السيارة أجر قدميّ جرا، واتخذتُ مجلسي في القيادة.. وأدرت المحرك... فانطلقت السيارة ببطء.. الى أين؟ الى الشرطة أسلّم نفسي وأشرح ماجرى؟ وهل يكون إلا السجن نصيبي الى أن يحين موعد شنقي؟! هل أخفي الجريمة لأنال السلامة وأقضى العيد في داري؟ أليس ذلك هو السبيل الى أن أواصل السعي في الدنيا الواسعة؟ إني بريء.. بريء ألف مرة، ولكن من يسمع يقول، سأشقي بالسجن منفردا فيه، ثم ينتهي به الأمر الى الشنق.

السيارة تضرب في الطريق، وأنا أفكّر على غير هدى.. وأخيرا وقفت السيارة.. فحاولت تسييها فلم أنجح، وتبيّن لي أن وقودها قد نفد.. و نزلت منها أنظر ماذا أفعل؟.. إني في طريق صحراوي.. والرمال تحيط بي من كل المكان. والهواء يصفر بشدّة.. لابد أن أبحث عن وقود.. ولكن البقعة بعيدة خالية... وهذه الجثة التي في السيارة... لابد أن أتخلّص منها قبل كل شيء..

وأكرهت نفسي على أت أنزل الجثة من السيارة، وقاسيت من ذلك الكثير، ولكني كنت جامدا جمود الصخر.. ثم جذبت السيدة من قدميها جذبا.. وألقيتها على الرمال.. وأنا أمسح العرق وعلى جبيني... أيَّة امراة كنت؟ أي موطن قذف بك إلينا؟ وهل فكرت يوما أنك ستموتين بهذه الطريقة؟ وأن الصحراء ستكون قبرك؟

ثم قفزت دفعة واحدة.. وهربت... كانت قدماي تغوصان في الرمل، ولكني ظللت أجري... وصدم سمعي صوت ضحكات عالية... إنها ضحكات عبد العال الفحام... وواصلتُ الجري... ثم لاحت لي الأنوار من بعيد... ثم وصلت الى شارع به ناس كثيرون.. و حركة مستمرة... و أصلحتُ من ملابسي قدر ما أستطيع... لم يهتم بي أحد... وجاءت سيارة عامة مزدحمة.. فركبتُ واختفيتُ بين الركاب.

ووصلتُ الى داري.. وأقبلت على زوجتي و همستُ لها بالتحية و أخذَت تنظر في وجهي ثم قالت : ما لك

-أنا مريض

 وارتميتُ على الأرض، فصرخت وأسرعت نحو تساعدني... ثم أنهضتني وسارت بي بي الى السرير : فتمددتُ عليه.. وقالت ونظراتها لا تفارقني :

ماذا؟ أجاريح أنت؟

فأجبتُ مغمّ العينين "نعم... أنا جريح... بل أنا مجرم... مجرم قاتل.."

ماذا تقول؟ أنت مجرم... سأجهّز لك فنجان شاي.

بل كوب ماء فقط.

وجاءتني بكوب الماء في الحال. وشربته دفعة واحدة. وألقيتُ برأسي على الوسادة. وعيناي مغمضتان... ثم امسكتُ بيد أم محمد وقلت :

 لقد قتلتُ امراة ودفنتها في الرمل. فضربت صدرها بيدها وصاحت :" ماذا تقول يا أبو محمد... أنت مريض!! استرح.. نم قليلا". فقلت وقد عدت أمسك بيدها : "أصغي إليّ... ثم أخبريني ماذا أصنع؟" ورويتُ لها قصتي بكل ما فيها من تفاصيل... وأحسست بها تهتز وهي تقول : "هكذا الدنيا... قسمة ونصيب".

أريد أن أستمتع بالعيد معكم يا ام محمد أريد أن أشارككم صباح الغد مائدة ~الفتة~.. أريد أستمع معكم الى أناشيد العيد!.

فأجابتني بصوت حزين :

ولكن يجب يا أبو محمد أن تذهب الى الشرطة، وتشرح لها كل شيء. وشدت على يدي، وهي تحاول الإبتسام وقالت :

" لن يصيبك مكروه.. الله أكبر من أن يظلمك!".

فقلت : الشرطة... الشرطة... لا... لا أريد أن أفارقكم.. بل أريد ان أستمتع بالعيد معكم".

هأنذا يا سيّدي الضابط أعمل ما طلبته أم محمد زوجتي.. فحضرت إليك ورويت ما حدث كله لك... لم أنقص ولم أزد فافعل ما تريد...

إن في الحياة أسرارا لا نفهمها... ولا يعلمها إلّا علّام الغيوب...

فنظر إليه الضابط نظرة عميقة وقال : اهدأ يا أبو محمد.. الله موجود.. الله موجود

.


Komentar

Postingan Populer